وجهان لوطنٍ يعيش… حياتين!
جاء في “الراي” الكويتيّة:
لبنان اليوم كأنه لبنانان والحياةُ فيه أشبه بحياتيْن، وطقوسُه أقرب ما تكون إلى «صيفٍ وشتاءٍ تحت سقف واحد». ربما هي واحدةٌ من عجائب بلاد «المفارقات الصعبة» التي تختزنها الحكايةُ – الأسطورة عن طائر الفينيق الذي لم يملّ الرمادَ وغبارَه. خليطُ أضدادٍ كالخبز اليومي في حياة اللبناني الذي لم تكسره مأساةٌ ولم تَرْدعه حربٌ ولا تُسْقِطُهُ أزمات… حزنٌ وفرحٌ، نزوحٌ وسَهَرٌ، عتمةٌ وأضواء، مآسٍ واحتفالات، موتٌ وحياة. أضداد كأنها وجْهان لقَدَرٍ يَسْتَلْهِمُ منه اللبناني قُدْرَتَه على البقاء.
في جنوب البلاد حربٌ وموتٌ ونزوحٌ وأوجاع، وعلى امتداد «طولها وعرْضها» أجواءُ أعيادٍ وزينةٌ وأضواء لم تطفئها تهديداتٌ بـ«مكبّرات الصوت» بتحويل بيروت غزة، وتلويحٌ بـ «العصر الحَجَري» وبدمارٍ ما بعده دمار وبأن الآتي أعْظم.
فمع تَصاعُد وتيرة المواجهات في جنوب لبنان واتساع رقعتها إلى أبعد من القرى الحدودية واشتدادِ درجات العنف فيها وارتفاع أعداد النازحين وصولاً إلى ما يناهز 70000، وكذلك عدّاد الضحايا الأبرياء الذين يسقطون من دون تمييز بين مدني وعسكري أو إعلامي، يبقى الجنوبُ قُبْلة العدسات التي وجدتْ نفسَها منذ حلول ديسمبر «مقسومةً» بين زنار النار الذي يلفّ الجبهة اللبنانية – الإسرائيلية وبين «قوس النور» الذي شقّ طريقه إلى مناطق عدة تعيش أجواء أعياد الميلاد ورأس السنة وكأنها إعلان «لن ننكّس الأفراح».
لم تَنَمْ «يمنى»، وهي صبية بيروتية تلك الليلة بعدما سمعتْ تهديداتِ نائب رئيس أركان الجيش الإسرائيلي وسكرتير وزارة الحرب دان هرئيل بأن «على الطائرات الحربية الإسرائيلية التحليق بطائرات F35 فوق سماء بيروت في شكل منخفض وبسرعة فائقة جداً من أجل كسْر كل زجاج بيوتها في هذا البرد، حتى يشاهد اللبنانيون ماذا سينتظرهم اذا حاولوا التصعيد في الشمال».
ارتعبتْ الأم الشابة وفتحتْ نوافذَ البيت التي لم يَمْضِ وقتٌ طويلٌ على تجديدها بعد تَساقُط زجاجها إثر انفجار مرفأ بيروت، وحملتْ أطفالَها بعيداً عن النوافذ وبقيتْ ساهرةً خوفاً وتَحَسُّباً… في اليوم التالي وبعدما مرّ الليلُ بسلامٍ، كان صغارُها على موعدٍ مع عرْضٍ مَسْرَحيّ عالميّ مُبْهِرٍ… عائلاتٌ مع صغارها من كل المناطق أتوا للاستمتاع بعرضٍ عالمي لا يرونه إلا مرة في السنة. نسوا التهديدات وأغمضوا عيونهم ولو لبرهة عن صُوَرِ المآسي في غزة وجاؤوا للاستمتاع بالفرَح وبراءة الطفولة.
أنطوني ابو أنطون، المسؤول عن إحدى الشركات التي تعنى بالترفيه هو الذي أصرّ على الإتيان بهذا العرض الى بيروت رغم الظروف. ويقول لـ الراي»: «فكّرنا قبل بضعة أشهر أننا منذ 4 سنوات نمرّ بظروفٍ صعبة ولم نحتفل بأعياد آخِر السنة كما يجب، ولذا قرّرْنا أن علينا إعادة الفرح والاحتفال كما يليق بنا. ولذا حَجَزْنا لاستعراض العرض العالميّ مكاناً في لبنان وبدأنا عروضَنا في قصر المؤتمرات في منطقة ضبية الذي رمّمناه ليكون جديراً باستقبال استعراض عالمي بعدما كان مقفلاً لمدة أربع سنوات».
وأثناء التحضيرات لاستقبال هذا الاستعراض، بدأت الأوضاع تتأزم في لبنان وتلغى غالبية الحفلات والنشاطات الترفيهية أو تؤجَّل حتى السنة المقبلة «لكننا أصررنا على عدم التأجيل والإلغاء لأننا رأينا أن من حق كل عائلة لبنانية بصغارها وكبارها أن تشعر بأجواء العيد ولا سيما مع تناقص عدد النشاطات المخصصة للصغار». ويضيف أبو أنطون: «طلبنا بعض التعديل في الشخصيات وأردناها باللون الأبيض لتعطي رسالة سلام وأعدْنا تسجيل أغنية خاصة للسلام. هدفنا أن نرسم بسمة ونساهم في بث أجواء حلوة في أعياد آخِر السنة».
وكأنهما وطنان تحت سماء واحدة؛ في الجنوب المزيدُ من العائلات تنزح من مناطق كانوا يظنونها آمنة، على وقع ارتقاء المواجهات على مقلبي الحدود في ملاقاة سباقٍ أعلنتْه إسرائيل ضمناً بين مساريْن: واحد على البارد وآخَر على الساخن لإبعاد «حزب الله» عن حدودها الشمالية. مدارس كثيرة في المناطق الحدودية لم تَعُد قادرةً على فتْح أبوابها، وتَشَرَّدَ تلامذتُها في مدارس أخرى أو فُرض عليهم التعلّم عن بُعْد أو خسروا عامهم الدراسي. مُزارعون فَقَدوا جزءاً كبيراً من موسم الزيتون الذي أتلفتْه إسرائيل بالحرق أو بمنْع أصحابه من بلوغه بسبب القصف. موسمُ التبغ مَهَدَّدٌ مع عجْزِ المزارعين عن بدء زراعة الشتول الجديدة. الأضرارُ كبيرةٌ والتعويضاتُ لاتزال مثار أخْذٍ وردٍّ ويُتوقع أن تكون في حدود 10 ملايين دولار يدفعها مجلس الجنوب للمتضرّرين. ولكن مهما بلغت قيمتُها فهي حتماً تبقى ضئيلةً لا تعوِّض على الناس الأمان الذي سُرق منهم ولا مستقبل أبنائهم وعامهم الدراسي ولا الأرواح التي أزهقت.
«جمهورية الأمل والفرح»
في مقابل هذا الألم، كانت «جمهورية الأمل والفرح» في البترون تقدّم صورة رائعة لبدء احتفالات موسم الأعياد ضاهتْ بها أهمّ المدن الأوروبية المشهورة بأسواقها واحتفالاتها الميلادية. فقد أصرّ أهلها على جعْلها «عاصمة الميلاد» على مدى 35 يوماً. ويتوقع أن تشهد البترون مئات آلاف الزوار في هذه الفترة وكذلك مدينة جبيل التي تستمرّ في تقليدها السنوي بتحويل المدينة الى شلال من الأضواء والزينة والفرح.
أما بيروت التي بالكاد استعادتْ أنفاسَها بعد انفجار المرفأ فتُجاهِدُ بدورها لتلمّ أشلاءَ الفرح التي تبعثرتْ في ذلك اليوم المشؤوم، وهي اليوم رغم تأثُّرها الشديد بالحرب الدائرة في الجنوب اقتصادياً وسياحياً ونفسياً، تكافح لاستعادة بعضٍ من وهجها.
أكبر معرض ميلادي
على مساحة 10000 متر مربع وفي قلب العاصمة بيروت يمتدّ أكبر معرض ميلادي يشهده لبنان. فأكثر من 250 عارضاً سيشكلون الحدَث الاحتفالي والترفيهي الأبرز في موسم الأعياد، في استثمارٍ ضخم تَطَلَّبَ جهوداً كبيرة.
غريب ومدهش هذا البلد الصغير القادر على النهوض من رماده في كل مرة. مجمع أسواق بيروت، الذي أقفل أكثر من 80 في المئة من محاله إثر ثورة 17 تشرين الأول 2019 بعدما تحوّل مركزاً لأحداثها وبعد انفجار المرفأ الذي ألحق به أضراراً فادحة، يستعدّ لولادة جديدة.
الزينة خجولة
في الشوارع والمناطق، تبقى الزينةُ خجولةً، فالبلدياتُ التي تقف على شفير الإفلاس غير قادرةٍ على تَحَمُّلِ كلفة تزيين الشوارع ولا حتى استبدال بضعة مصابيح من أضواء الزينة بحال احترقت. والعمال الذين سيكلَّفون بوضْع الزينة يكادون لا يقبضون أجورَهم الشهرية كما قال لنا نبيل كحالة رئيس بلدية سنّ الفيل. لكن رغم ذلك تسعى البلديات ولو باللحم الحيّ لبثّ بعض مظاهر العيد المختصَرة في شوارعها ولا سيما التجارية التي تفتقد الى زحمةِ الزبائن القديمة التي كانت تشهدها في مثل هذه الأيام من كل سنة.
… إنها الأعياد التي تحلّ هذه السنة في زمن الحرب وكوابيسها، علب هدايا ولو تشظّتْ بالانهيار المالي وصارت رمزيةً أو متواضعة، وسهراتٍ من «حواضر البيت» أو تحت أضواء الليل المزروع قطرات ضوء، وهبّاتِ حزن وخوف تطلّ مع رياح الجنوب الساخنة وميدانه المشتعل.