لبنانمباشر

عام على انتخابات 15 أيار 2022… نواب بلا مجلس نواب؟

كتب نجم الهاشم في “نداء الوطن”:

منذ تبوّأ الرئيس نبيه برّي سدّة رئاسة المجلس النيابي عام 1992، طغت طريقة إدارته لهذا المجلس على المهمة التي أوكلت إليه بموجب الدستور. منذ 31 عاماً يتحكّم بدور هذا المجلس ويطوّعه ليعدّل فيه الأدوار بين الأكثرية والأقلية. كان من المفترض أن يتولّى هذا المجلس بعد الطائف تأمين الإستقرار في الحياة السياسية من خلال تكريس حدود مقبولة ضمن إطار اللعبة الديمقراطية، ولكن الممارسة لا تذهب في هذا الإتجاه. بعد عام على انتخابات 15 ايار 2022 النيابية تتعطّل هذه اللعبة مرّة جديدة.

منذ الإستقلال عام 1943، عرف لبنان 16 مجلساً نيابياً. تسعة قبل الطائف وسبعة بعده. اختصرت هذه المجالس الحياة السياسية في لبنان بكل تداعياتها، سلبياتها وإيجابياتها، وتمثلت فيها شخصيات وأحزاب وشهدت خلالها الإنتخابات النيابية تقلبات كثيرة وانقلابات بين الأكثريات والأقليات، واعتُمدت فيها قوانين انتخابات مختلفة. ولكن يسجّل لهذا المجلس النيابي أنّه حافظ على انتقال السلطة وعلى عمله التشريعي حتى العام 1992 بحيث أمّن دائماً انتخاب رئيس للجمهورية وشهدت قاعته العامة خلال تلك المراحل جولات من السجالات النيابية التي لا تزال تعبّر عن قيمة تلك المرحلة السياسية التي لم يحصل أن أقفل فيها المجلس إلا في ظروف قاهرة خلال الحرب.

ولكن بطبيعة الحال على رغم الشوائب الكثيرة التي حصلت في عمليات انتخابية بقي المجلس يؤمّن حدّاً معيناً من الإستقرار السياسي، وإن كان أحياناً ينقلب على نفسه وعلى مسار القوى التي حاولت التحكّم به.

عام 1943 مثلاً أوصلت الأكثرية النيابية الرئيس بشارة الخوري إلى سدة الرئاسة وأدّت عملياً إلى حصول لبنان على استقلاله بتدخل بريطاني منافس لسلطة الإنتداب الفرنسي. نجح الرئيس الخوري في معركة الإستقلال ولكنّه فشل في حماية عهده من الفساد. السقطة الأولى كانت في انتخابات 1947 التي أمّنت له الأكثرية وأغرته بالتجديد.

كرّر التجربة في انتخابات العام 1951 ولكن الأكثرية المؤيّدة له لم تحُل دون إجباره على الإستقالة وانتخاب منافسه كميل شمعون رئيساً في 23 أيلول 1952 الموعد الذي ظلّ يُحترم فيه انتخاب الرئيس حتى آخر ولاية الرئيس أمين الجميل عام 1988، عندما بدأ تعطيل جلسات انتخاب الرئيس. حتى كميل شمعون بعدما حصل على أكثرية مؤيّدة له في انتخابات عام 1957 لم تستطع هذه الأكثرية أن تحميه وذهبت إلى انتخاب قائد الجيش فؤاد شهاب خلفاً له.

أراد شهاب، من ضمن نظرة جديدة إلى طريقة إدارة الدولة وتحقيق توازن سياسي، أن يؤمِّن نوعاً من الإستقرار في العمل النيابي فعمد إلى إقرار قانون انتخابات جديد عام 1960 جعل فيه عدد النواب 99، ووزع المقاعد على دوائر انتخابية بحجم الأقضية، بعدما كان هذا العدد يتغيّر مع الدوائر في كل انتخابات سابقة. ومع ذلك بقيت التدخلات السياسية السلطوية تؤثّر في تكوين المجلس النيابي. على رغم أنّ شهاب بعد انتخابات 1964 كانت لديه أكثرية نيابية إلا أنّه رفض السقوط في تجربة التجديد واختار شارل حلو خلفاً له. وعلى رغم استمرار تدخّل المكتب الثاني في مجرى الإنتخابات عام 1968 إلى أنّه لم يستطع أن يضمن انتقال الرئاسة إلى شهابي آخر هو الياس سركيس، الذي خسر بفارق صوت واحد أمام سليمان فرنجية المدعوم من الحلف الثلاثي وقوى سياسية أخرى كانت متضرررة من النهج الشهابي.

بين مجلس 1972 ومجلس 2005

شكّلت انتخابات عام 1972 تغييراً كبيراً في مجلس النواب وأوصلت أكثرية جديدة تدور حول الرئيس وداعميه من كل القوى ومن كل الطوائف. ولكن هذه الأكثرية كانت مطواعة بحيث أنّها شكلت جسر عبور سياسي في محطّات كثيرة. أطاحت الحرب التي اندلعت عام 1975 بالإنتخابات وكتبت لهذا المجلس عمراً مديداً استمرّ حتى عام 1992. هذا المجلس انتخب الياس سركيس رئيسا للجمهورية عام 1976، وبشير الجميل في 14 آب 1982، ثم أمين الجميل بعد اغتيال بشير في 14 أيلول، ثم تعطّل دوره الإنتخابي الرئاسي في أيلول 1988، ولكنه استطاع بمن بقي من نوابه التوصل إلى اتفاق الطائف في تشرين الأول 1989 وانتخاب رينيه معوّض رئيساً في 5 تشرين الثاني، ثمّ الياس الهراوي خلفاً له بعد اغتياله في 22 تشرين الثاني من ذلك العام. وقد تنقل هذا المجلس بين ساحة النجمة وقصر منصور قرب متحف بيروت، وثكنة الفياضية وبارك أوتيل شتورة ومطار القليعات في الشمال.

اغتيال معوّض كان حدّاً فاصلاً بين تاريخين من عمر مجلس النواب. قضي على ذلك المجلس في انتخابات 1992 التي أريد من خلالها تأكيد سلطة عهد الوصاية السورية على الحياة السياسية في لبنان ليبدأ معها اختيار قانون الإنتخابات وتقسيم الدوائر وتسمية النواب في ظل رئيس «أبدي» لهذا المجلس هو الرئيس نبيه بري. وفي ظل عدم احترام الإستحقاقات الرئاسية تمّ التمديد للرئيس الهراوي ثلاثة أعوام وتمّ انتخاب قائد الجيش إميل لحود خلفاً له بقرار سوري قبل أن يمدَّد له أيضاً عام 2004.

انتخابات عام 2000 شهدت تحولاً من خلال الدور الكبير الذي تولّاه رئيس الحكومة رفيق الحريري بالتحالف مع رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط ولكن من دون تغيير الأكثرية الموالية للنظام السوري. هذا التغيير كان من الممكن أن يحصل في انتخابات عام 2005 ولكن في 14 شباط قبل تلك الإنتخابات تمّ اغتيال الحريري.

الخوف من الإنتخابات نابع من الدور الأساسي الذي يمكن أن يلعبه مجلس النواب في الحياة السياسية بعد الطائف لأنه أصبح مصدر التغيير السياسي.

هذا الأمر أدركه النظام السوري منذ اغتيال الرئيس رينيه معوّض ومنذ قرّر الإطاحة بمجلس نواب 1972. وهذا ما أدركه «حزب الله» منذ اتخاذ القرار باغتيال الرئيس الحريري. لذلك انقلب «الحزب» في غزوة 7 أيار 2008 على انتخابات 2005 التي حصلت فيها قوى 14 آذار على الأكثرية وشكّلت حكومة برئاسة الرئيس فؤاد السنيورة لم يحصل فيها الحزب على الثلث المعطل. خسر «الحزب» أيضاً الأكثرية في انتخابات 2009 ولذلك انقلب عليها في بداية عام 2011 عندما أسقط مع العماد ميشال عون رئيس «التيار الوطني الحر» حكومة الرئيس سعد الحريري وأتى بالرئيس نجيب ميقاتي على رأس حكومة يتحكم بها.

وخوفاً من تكرار تجربة خسارة الأكثرية استمرت ولاية المجلس حتى عام 2018 بعد انتخاب الرئيس ميشال عون وبعد إقرار القانون الجديد للإنتخابات عام 2017 الذي يقوم على تقسيم جديد للدوائر وعلى الترشّح ضمن لوائح مع صوت تفضيلي واحد لمرشّح واحد. حصول الحزب مع «التيار الوطني الحر» على أكثرية بسيطة في تلك الإنتخابات لم يمنع انهيار العهد وتهديد سيطرته مع الحزب على قرار الدولة بعد ثورة 17 تشرين وعجزهما عن تشكيل أي حكومة قادرة على الإنقاذ. ولذلك كانت معركة انتخابات 15 أيار 2022 مفصلية.

بقاء «الحزب» على حساب زوال لبنان؟

خاض «حزب الله» تلك الجولة بأهداف عديدة: أولاً عمل على احتكار التمثيل النيابي الشيعي مع «حركة أمل» والرئيس نبيه بري لكي لا يكون هناك أي مرشح آخر ضدّه على موقع رئاسة المجلس. عمل ثانياً على دعم حليفه «التيار الوطني الحر» لكي لا يخسر الأكثرية المسيحية. وعمل ثالثاً على منع «القوات اللبنانية» من إحراز أي زيادة في عدد نوابها. ولكنّ النتائج لم تكن على قدر توقّعاته. استطاع أن يؤمّن النواب الشيعة وبقاء بري رئيساً للمجلس، وفشل في تحقيق الأهداف الأخرى وفقد الأكثرية. لذلك يتحكّم اليوم بمسألة عرقلة انتخاب رئيس جديد للجمهورية غير مرشّحه سليمان فرنجية.

بعد تعطيل نتائج انتخابات 2005 ثم 2009 يعطّل الحزب نتائج انتخابات 2022. ولكن مع فارق يتمثّل في أنّ الأكثرية الخارجة عن إرادته ليست موحّدة حول استراتيجية سياسية واحدة، وحول مرشح رئاسي واحد. الفشل الأول تمثّل في أنّ النواب «التغييريين» الـ13 ليسوا متّفقين مع بعضهم ولا مع القوى الأخرى المعارضة للحزب. مع الإشارة إلى أنّ هؤلاء وصلوا إلى المجلس بفضل الصوت التفضيلي وقانون انتخابات 2017.

يخاف «الحزب» انتخاب رئيس جديد للجمهورية لا يتحكّم به وبقراراته. وهذا الخوف ليس متعلّقاً بمسألة الرئاسة فقط، بل بالإستحقاقات السياسية المقبلة، ولعلّ أهمّها انتخابات 2026. إذا كان «الحزب» مع «التيار الوطني الحر» وفي ظلّ رئاسة عون لم يتمكّن إلا من الحفاظ على احتكار التمثيل الشيعي، فكيف يمكن أن تكون النتيجة في انتخابات تحصل بعد ثلاثة أعوام في ظل تحالفات سياسية خارجة عن سلطته ومعارضة له وفي ظل رئيس ليس تحت سلطته؟ ما يحصل اليوم من تعطيل لانتخاب رئيس جديد للجمهورية أخطر من تعطيل عام 2014 بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان. ولذلك لن يتساهل «الحزب» لا في انتخاب الرئيس ولا في تشكيل أي حكومة جديدة لا يكون مسيطراً عليها ولا في اختيار المناصب الأساسية في الدولة.

هل يمكن الرهان بعد على تغيير يأتي من هذا المجلس النيابي الذي فشل حتى الآن في الحدّ من سيطرة «حزب الله» على الدولة وقيادتها نحو الإنهيار؟ وهل يمكن أن يبدِّل الحزب استراتيجيته الإنقلابية فيمنع انتخاب رئيس من خلال التعطيل؟ ويمنع بالتالي تشيكل أي حكومة جديدة؟ وهل من مصلحته أن يستمرّ الإنهيار لمنع الوصول إلى انتخابات 2026 باعتبار أنّه لن يخسر بالضربة القاضية ويعمل حتى لا يخسر بالنقاط؟ وهل باتت المعادلة قائمة بين بقاء لبنان وبقاء «حزب الله»؟ وهل أنتجت انتخابات 2022 نواباً من دون تثبيت دور مجلس النواب؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى