إنقلاب عسكري في 10 كانون الثاني مع انتهاء ولاية قائد الجيش؟
كتب نجم الهاشم في “نداء الوطن”:
بعد الإنقلاب السياسي في 31 تشرين الأول 2022 بمنع انتخاب رئيس للجمهورية، وفرض الفراغ في قصر بعبدا، وتحويل صلاحيات الرئيس إلى حكومة مستقيلة تقوم بتصريف الأعمال، يكتمل المشهد السياسي بانقلاب عسكري في 10 كانون الثاني المقبل مع انتهاء ولاية العماد جوزاف عون مع بلوغه سن التقاعد، ومن دون التوصّل بعد إلى حلّ يملأ الفراغ الناتج عن هذا الإستحقاق الذي يخيّم على قيادة الجيش في اليرزة.
ليست المرة الأولى التي يحصل فيها انقسام داخل الجيش اللبناني. فقد سبق أن عاشت المؤسسة العسكرية منذ العام 1975 حالات من هذا النوع ولكن القيادة بقيت راسخة وواحدة في اليرزة. التطور الخطير الذي يمكن أن يحصل هذه المرة يتمثّل في احتمال انشطار القيادة عبر حالات مختلفة:
– احتمال ألّا يكون هناك قائد جديد بسبب عدم التوصل إلى اتخاذ أي قرار بتمديد ولاية العماد جوزاف عون، أو بتأجيل تسريحه، أو بتعيين قائد جديد يحلّ محله، أو رئيس للأركان، خصوصاً أن لا رئيس للأركان في الخدمة يمكنه أن يحلّ محله كما ينصّ قانون الدفاع. وهذا الأمر يؤدّي حكماً إلى ضياع القرار القيادي وإلى شلل المؤسسة العسكرية وخطر تفلّت الأمن، وتوزّع القرار بين قادة الألوية والوحدات، وربّما نزولاً إلى الكتائب والسرايا.
– احتمال تكليف وزير الدفاع الوطني العميد موريس سليم الضابط الأعلى رتبة بقيادة الجيش من دون المرور عبر الحكومة التي تصرّف الأعمال، وهذا يعني عدم الإعتراف بشرعية قيادته وتمرّد بعض الضباط القادة والوحدات عليه.
– احتمال أن تعيّن الحكومة نفسها قائداً جديداً للجيش متجاوزة وزير الدفاع، باعتبار أنه تلكّأ عن القيام بما يفرضه عليه موقعه، خصوصاً بعد الرسالة التي وجّهها إليه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ورَفَضَ الإلتزام بها. وبالتالي يكون هناك قائد معيّن من الحكومة وقائد معيّن من الوزير. مع احتمال أن يقوم عسكريون متضرّرون من التعيين بالطعن بقرار الحكومة أمام مجلس شورى الدولة.
– احتمال أن يتولّى مجلس النواب في جلسة تشريعية تمديد ولاية قائد الجيش إلى سنّ الـ61 عاماً بحيث يمكن عندها للعماد جوزاف عون أن يستمرّ في موقعه. ولكن هذا الأمر أيضاً معرّض ليطعن به «التيار الوطني الحرّ» أمام المجلس الدستوري بحيث يصير أيضاً هناك قائدان للجيش في اليرزة عُيِّن كل منهما بطريقة مختلفة ضاع فيها السياسي بالدستوري والشرعي والقانوني.
«مون جنرال».. إنّها معركتك أنت
يروي اللواء أنطوان بركات في كتابه «من الفياضية حتى واشنطن… على دروب الشهامة» محطات من تاريخه العسكري وتاريخ الجيش. يقول عن مرحلة انقسام الجيش في العام 1976: «في 15 آذار 1976 اتصل بي هاتفياً قائد الجيش العماد حنا سعيد قائلاً: «هل عرفت أنّهم أخذوا (ثكنة) حمانا؟». فأجبته: «وهل عرفت أن أحد الضباط سلّمهم إيّاها؟ وسقطت كذلك منطقة ضهر البيدر والمديرج». وقلت للعماد سعيد: «بعد يومين أو ثلاثة تصل «الجماعة» إلى عاليه. مون جنرال في عاليه تنتهي المنطقة اللبنانية التي تقطنها أكثرية إسلامية وفيها ستبدأ المعركة الحاسمة… مون جنرال المعركة معركة كلّ لبناني، معركتي أنا وبنوع أخصّ معركتك أنت لأنّك القائد المسؤول. والويل لنا إذا انهارت جبهتنا وتمكّنوا من خرقها والإنطلاق منها».
عندها سألني: «وهل بإمكانك أن تفعل شيئا؟». فأجبته منفعلاً: «أنا القادر. فكلّ عملي وهدفي وحركتي هي لهذه الساعة. كم نبّهتكم وحذّرتكم ولم تسمعوا، إنّ اللبناني أصبح مكشوفا (تزلّط) وهو اعتاد الإعتماد على جيش يحميه أو يقاتل من أجله. إنّه خائف. مون جنرال لقد دقّت الساعة…». وعاد العماد سعيد ليسأل: «وهل تقدر؟». فأجبت: «أنا القادر. بعد ساعة أو ساعتين يكون كل شيء جاهزاً. ولكن مون جنرال أريد منك شيئاً، بما أنّك القائد المسؤول، أقترح عليك أن تزور المحاور ليرى الجنود والمواطنون أننا متّحِدان فيزدادون ثقة وصموداً. فقال: «أنا حاضر».
كان اللواء بركات قد قاد حركة عسكرية داخل الجيش في 12 آذار 1976 للوقوف في وجه الإنقلاب الذي أعلنه العميد الركن عزيز الأحدب قبل يوم واحد وطالب فيه باستقالة رئيس الجمهورية سليمان فرنجية. وكان الملازم أول أحمد الخطيب قد انشقّ عن الجيش بداية العام 1976 بدعم من حركة «فتح» الفلسطينية واحتلّ ثكنات الجيش في المناطق الخارجة عن الشرعية، وأعلن قيام جيش لبنان العربي. ولكن في كل تلك المرحلة الصعبة وفي ظلّ الحرب، بقيت القيادة موحّدة في اليرزة، وبقي هناك قائد واحد للجيش.
ألوية وقيادتان وحكومتان
مرة ثانية حصل الإنقسام في العام 1983 عندما طلب رئيس «الحزب التقدمي الإشتراكي» وليد جنبلاط من الضباط والجنود الدروز ترك مواقعهم والإلتحاق به والتجمع في منطقة الشوف وعاليه، فكان اللواء 11. وتبعه طلب مماثل من رئيس حركة «أمل» نبيه بري بعد 6 شباط 1984 حيث صار اللواء السادس تجمعاً للعسكريين والضباط الشيعة، بينما صار اللواء 12 في الشمال تجمعاً للضباط والعسكريين السنة. ولكن في كل تلك المرحلة أيضاً بقيت القيادة واحدة في اليرزة، وانتقلت من العماد ابراهيم طنوس إلى العماد ميشال عون في نيسان 1984.
مع العماد ميشال عون اختلف المشهد العسكري والسياسي. بعد تكليفه رئاسة الحكومة العسكرية في 22 أيلول 1988 احتفظ بموقعه في قيادة الجيش بالإضافة إلى حقيبة وزارة الدفاع. على رغم أن حكومة الرئيس سليم الحص لم تكن دستورية ولا شرعية، بعد إحيائها من دون مراسيم، بعد اغتيال رئيسها المستقيل رشيد كرامي، فقد عيّنت بقرار من النظام السوري لمواجهة حكومة عون، اللواء سامي الخطيب قائداً للجيش بحيث صار للمرة الأولى في لبنان قائدان للمؤسسة العسكرية: واحد في اليرزة وآخر في بيروت الغربية.
اللواء بركات وكتاب «على دروب الشهامة»
بعد انتخاب الرئيس الياس الهراوي في 25 تشرين الثاني 1989 وتشكيل الرئيس الحص حكومة العهد الأولى، عيّنت هذه الحكومة العماد إميل لحود قائداً للجيش. ولكن عون رفض تسليم السلطة وبقي متحصّناً في القصر الجمهوري وفي وزراة الدفاع وبقي الجيش تحت أمرة قائدين لكلّ منهما قيادته وأجهزته ومخابراته وألويته. انتهت هذه الإزدواجية في 13 تشرين الأول 1990 عندما شكّل جيش العماد لحود غطاء لهجوم جيش النظام السوري الذي دخل القصر الجمهوري ووزارة الدفاع ونقل محتوياتهما إلى سوريا، بينما لم يستطع لحود أن يفعل شيئا بانتظار استكمال سنوات قيادته للجيش قبل أن يختاره النظام السوري رئيساً للجمهورية عام 1998.
عودة القيادة إلى القيادة
صحيح أنّ القيادة توحّدت ولكن تحت سقف ما يريده النظام السوري للمؤسسة العسكرية. منذ العام 2005 بعد انتفاضة 14 آذار، حاول العماد ميشال سليمان ومن بعده العماد جان قهوجي ثم العماد جوزاف عون استعادة التوازن داخل المؤسسة العسكرية لجهة الدور والمهمات التي تقوم بها بعيداً عن الولاءات أو التوجيهات السياسية. بعد انتفاضة 17 تشرين وقع الخلاف بين جوزاف عون قائد الجيش وميشال عون رئيس الجمهورية. لذلك جرت محاولات لتطويع الأول وكأنّ المطلوب قائد للجيش ينفّذ أجندة سياسية تتولّاها جهة سياسية، هي «التيار الوطني الحر»، ويخدم هدف إيصال رئيسه جبران باسيل إلى قصر بعبدا خلفاً لعمّه الرئيس. ولذلك جرت محاولات تطويقه عبر وزير الدفاع الياس بو صعب أولاً، ثم العميد المتقاعد موريس سليم. وازدادت الحرب ضدّه شراسة مع تقدّم حظوظه كمنافس قوي في السباق إلى قصر بعبدا.
في لقاء مع وزير الدفاع موريس سليم في مناسبة عيد الجيش في أول آب 2022، قبل شهرين من انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، قال إنه يطّلع باستمرار وبشكل دوري من قائد الجيش، العماد جوزاف عون، على أوضاع وحاجات المؤسسة العسكرية ويعمد إلى اتخاذ القرارات الآيلة إلى توفير تلك الحاجات وزيادة قدراتها. وأكد على متانة وانسيابية العلاقة مع قائد الجيش لأنّ الهدف الأساس هو التعاون والتكامل كون الرؤية والأهداف متطابقة. وقد سبق للوزير أن زار مديرية المخابرات في شباط 2022 واجتمع بضبّاطها بحضور قائد الجيش.
«متانة العلاقة وانسيابيتها» اللتان تحدّث عنهما وزير الدفاع ثبت عدم صحتهما. إذ أنّه منذ انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون بدأت المشاكسة بين مقرّ قائد الجيش في اليرزة وبين مقرّ وزير الدفاع، وصولاً إلى الخلاف حول الكثير من القضايا المتعلقة بالمؤسسة والتعيينات التي انفجرت في موقع المفتشية العامة التابع للوزير والذي صار له مفتش عيّنه الوزير ورفضه قائد الجيش الذي كلّف ضابطا آخر بالمهمة. كما أن الوزير رفض تأجيل تسريح رئيس الأركان الأمر الذي لو حصل لما كانت برزت أزمة القيادة المرتبطة بانتهاء ولاية العماد جوزاف عون، وبرزت محاولات تشكيك بنزاهة العماد عون من خلال اتهامه بملفات فساد داخل الجيش وتسريبها في وسائل إعلام تابعة لـ»حزب الله».
من عون إلى عون
من المفارقات أنّ انقسام القيادة حصل في المرة الأولى على عهد العماد ميشال عون، رئيساً للحكومة العسكرية، بين العامين 1988 و1990. وهو يمكن أن يتكرّر مرّة ثانية وعلى يد الرئيس السابق العماد عون وصهره النائب جبران باسيل. إلا أن الأخطر هذه المرة أنّ الإنقسام يحصل داخل مقرّ القيادة في اليرزة وليس بين وزير الدفاع والقائد بل داخل القيادة. والصراع المرافق لهذا الإستحقاق انعكس سلباً على وضع الجيش وقيادته قبل بلوغ الساعة الصفر. ذلك أنّ الدرس الذي يريد عون وباسيل تلقينه للعماد جوزاف عون لا يقتصر على العلاقة معه وحده بل يطاول المنهجية التي يجب أن يعتمدها كلّ قائد للجيش بحيث يوضع كل قائد جديد أمام معادلة «إما أن تنفّذ ما نطلبه منك وإما أن لا تصل إلى القيادة».
بمعنى أن يكون ولاؤه لمن يعتبر أنّ له الفضل في تعيينه وليس للمؤسسة العسكرية، وأن يضع المؤسسة في خدمة من عيّنه. وإذا حصل تعيين من هذا النوع بالتضامن بين عون وباسيل و»حزب الله»، غير المعارض لرغبتهما والمتخفّي وراءهما، فإنّ هذا الأمر يعتبر انقلاباً على قيادة الجيش وتطويعاً للمؤسسة. بينما ربّما المطلوب انقلاب معاكس يجب أن يحصل قبل 10 كانون الثاني من أجل حماية الجيش ووحدة قيادته، وبهدف إنهاء الإنقلاب الذي حصل على مستوى رئاسة الجمهورية. فهل من يعطي أمر اليوم لمثل هذا القرار؟ لأنّ السماح بتمرير هذا الإنقلاب في القيادة سيؤدي إلى استكمال الإنقلاب الأول بتعيين الرئيس الذي يريده «حزب الله».